ثقافة وفن

الفكاهة المخيفة: الكاريكاتير سلاح اجتماعي وسياسي فتّاك

حرية-التعبير

كثيرا ما سمعنا عن بيت شعر قتل صاحبه، أو رسمة قتلت راسمها، أو كتاب قتل كاتبه، فالإبداع، بعيدا عن الترف الجمالي، لعبة خطرة أيضا. لو تثبتنا في الأمر سنكتشف أن العمل الإبداعي يمكنه أن يكون سلاحا فتاكا في نصرة ذات المبدع ومجتمعه، تجابهه القوى التي يحاربها بالقتل والعنف. لكن الإبداع حي لا يموت، لذلك هو أخطر الأسلحة، لا يطاله صدأ ولا يستحق صيانة أو تلقيما وعناية. إنه سلاح الإنسانية الأبدي.
هناك من الباحثين، مَنْ يقرون بأن موقف فناني الكاريكاتير ينطوي، إلى حد ما، على نزعة عدوانية في عديد من الحالات، رغم ما قد يستبطنه هذا الفن في صلبه من انحياز نفسي للدفاع عن “الأنا” أو “الآخر”/الجماعة.

ويرون أن هؤلاء الرسامين مدفوعون بالضرورة بقوة هذه النزعة التي يحملونها، وتفصح عن وجهات نظرهم تجاه الشخصيات، التي يظهرونها ببراعة فنية راقية تشي باحترافية عالية، صورها مرسومة وكأنها مكتوبة، بفعل قابليتها للقراءة المنفتحة على تفسيرات عديدة وتأويلات محتملة، لا تفضي نتيجتها النهائية إلا إلى تشويش وإرباك وضع هذه الشخصيات والتشكيك في أمرها، بعدما خضعت وجوهها للتحريف وملامحها للتزييف وهيئاتها للتشويه والمسخ المرئي بدرجة مبالغ فيها. وأضحت في هندستها الجديدة في محلّ تهمة وريبة، تستدعي التأمل، وتحرّض على تغيير الرؤية حولها، انطلاقا من التفكير في قوالب إبداعية، اكتست فيها وضعا مغايرا، وتم إظهارها فيها على شكل صور مُضحكة، جسدت حالاتها على منوال متهكم ونقدي ساخر.

هذا ما يدفع، بالتالي، تبعا لهذه التقنية في التعبير، إلى البوح المباشر الذي يختزل نقدا صريحا، لا يعرف التواطؤ، يروم الكشف عمّا يتوارى خلف وجه يختبئ تحت غطاء الجدية والصرامة في مستوى ظاهري لا يعكس الحقيقة. لكنه يخفي في باطنه قناعا يضمر عيبا قابعا وتناقضا قائما، لا تزهق ريشة الفنان التواقة إلى القبض على المعنى المنفلت فيه، من رصد صورته المزدوجة وتعريتها والتشهير بها، ومن ثمة استثارة تفكير الآخرين، والدعوة إلى إعادة النظر في ما كان عالقا بذهن المتلقي حول شخصيات معينة يعرفها، مشهورة في الغالب، وسبق له أن ركّب عنها صورا نمطية على نحو مألوف وثابت.

الخطورة والتأثير

قياسا على ذلك، يمكننا إيجاد تفسير للعدوانية سابقة الذكر، من خلال عودتنا إلى إحدى الآراء التي قدمها بعض المحللين النفسيين في هذا المجال، ونراها تحمل في عمقها إشارة مهمة في تحليلها لهذه النزعة النفسية، ولعل من أبرزها، ما جاء به المحلل النفسي الشهير صاحب الاهتمام بالفنون التشكيلية، المؤرخ الفني الأمريكي “أرنست كريس”(Ernst Kris) (1900-1957)، الذي نجده بعد مراكمته لخبرة طويلة في هذا الميدان، يؤكد معنى مفاده أن: “الكاريكاتير بطبيعته عدواني، وفيه تكمن النوازع الأساسية التي أشار إليها فرويد، وهي الجنس والعدوان، والعدوان أكثر هيمنة على الجنس، وحتى عندما يكون المعنى الظاهري في الكاريكاتير جنسيا، يكون المعنى الخفي عدوانيا”.

ناجي العلي أنتج ما يربو على ثلاثين ألفا من الرسوم الكاريكاتيرية قبل أن يجري اغتياله في لندن

في المنحى ذاته، لكن بنظرة مغايرة، يضيف لنا “كريس” وفقا لما انتهى إليه زميله في تاريخ الفن، الناقد البريطاني “أرنست جوزيف جومبريتش” (A.G.Gombrich)، تحديدا دقيقا لفن الكاريكاتير في صورته الشاملة، ويحمل في صياغته هذا المعنى الذي يثبت ما للكاريكاتير من مهارة وخصوصية وخطورة في الآن نفسه، إذ يعتبر أن فن الكاريكاتير هو نوع من اللعب بالصورة من خلال الطاقة الإبداعية للفنان، ومن خلال خياله الخصب. وهو يحتاج إلى تمكن خاص من التكنيك والأسلوب المميز، ويجب أن يتم التركيز في تلقيه على الجانب المُضْحِك منه، فهو أشبه بالنكتة البصرية، لكن بربطه دائما بالواقع، والنظر إليه على أنه ممارسة خطرة يقوم من خلالها الفنان بالنقد الاجتماعي، أو التحريف للشكل الظاهري للإنسان، قد يعمل على إعاقة تطوره.

ولنا العبرة، لكي نتنبه إلى تدقيق “جومبريش” و”كريس” لما يميز الكاريكاتير من تأثير وخطورة، في استحضارنا على وجه التمثيل لا الحصر، لاسم شهيد الكاريكاتير العربي، الفنان والرسام الفلسطيني الراحل “ناجي سليم الحسين العلي”، المعروف اختصارا بـ”ناجي العلي” (1937-1987)، والمشهور عالميا بلقب الصورة الكاريكاتيرية للطفل “حنظلة”، وقد أنتج هذا الفنان ما يربو عن ثلاثين ألفا من الرسوم الكاريكاتيرية، قبل أن يجري اغتياله في لندن على أيدي الموساد الإسرائيلي، بسبب رسوماته الساخرة والمؤثرة بعمق.

أصابع الفنان

كذلك نذكر إلى جانبه، الرسام العربي البارع، الذي حظي باعترافات عالمية، وحصد معها عدة جوائز في هذا الميدان الذي تألق فيه، المبدع السوري المولد، مؤسس جريدة “الدومري” الساخرة، ورئيس رابطة فناني الكاريكاتير العرب، الذي اختارته مجلة “التايم” الأميركية واحدا ضمن مائة شخصية مؤثرة في العام 2012، إنه الفنان “علي فرزات” (1951)، صاحب الرسومات الكاريكاتيرية الجريئة، التي تنبني على التهكم والنقد الساخر، وتوجيه خطابات نقدية لاذعة على نحو صريح للنظام السوري.

وقد واجه بدوره كثيرا من الصعوبات والتحديات في محطات من مشواره المهني، وصلت إلى عدة مضايقات وتهديدات كان أشهرها وآخرها، الحادثة المؤلمة التي تعرض لها، مباشرة بالتزامن مع انتفاضات العرب واحتجاجاتهم الشعبية في ربيع الثورات (2011)، حيث هوجم في بيته من طرف ملثمين مجهولين، واختطف وأشبع ضربا مبرحا وعنيفا بلا هوادة من طرفهم، واستهدفوا في الاعتداء عليه أصابعه، التي ألحقت بها كسور، ووجهه، الذي تورم من الخدوش والتعنيف، ثم ألقي به على قارعة طريق عام، ولم ينقذه من الموت نزفا سوى مواطن سوري بادر إلى نجدته. لكن لحسن حظه تعافى من أزمته، وعاد ليمارس نشاطه في الصحافة من جديد، منضما هذه المرة إلى صحيفة عربية تصدر بلندن.

الفكاهة المخيفة

ما تقدم إذن، ليس إلا صورة واضحة للتدليل على ما تعرّض له في الواقع، نموذجان اثنان من نُشطاء هذا الفن، كما يشي بما أصاب أو يمكن أن يتعرض له كثير من ضحاياه العديدين. أما التأمّل في الأمر، فيؤكد أن النكتة الكاريكاتيرية المرسومة بريشة خفيفة ملهمة، تنطوي على خطاب ذي أدوار ووظائف مزدوجة، صار يلعبها، تتعدى في كنهها مستوى الرغبة في إنتاج الابتسام والإضحاك والتسلية والفكاهة الوديعة والمزحة اللطيفة.
علي فرزات اختارته مجلة ‘التايم’ الأميركية واحدا من مائة شخصية مؤثرة في العام 2012

إذ بقدر ما يحدث الفنان برسوماته تغييرا في الصور النمطية المركبة حول الأشياء والأشخاص، وبقدر ما يمارس بعمله سلطة واستفزازا وتحريضا واحتجاجا ونقدا وتقويضا وهدما، في سعيه إلى فضح ما لا يبدو ملائما في أنظمة السلطة والمؤسسات الرسمية وسلوكات بعض الشخصيات فيها، من خلال التشهير بها، وتعرية خداعها وزيفها وواقعها بصور كاريكاتيرية مُضحكة، تحمل بصمة الفنان ورؤيته الخاصة، وتعبر عن أفكاره ومواقفه وتصوراته مما يوده منسجما مع صورة الحقيقة التي تتوسلها أنامله وذاكرته وبصيرته.

هذا ما يجعل فنان الكاريكاتير مؤثرا بإبداعاته بدرجة واضحة، نافذة إلى الأعماق، على من يستهدفهم بسهام سخريته اللاذعة، التي تقضّ المضجع، وتبعثر الحسابات، وتثير الحفيظة في الذهن، وتبعث على القلق والشك والحيرة والتوجس في النفس، ثم تحدث فوق كل ذلك، ألما مريرا في الروح، بعدما يحرف الأشكال الظاهرة لصور شخصيات يعمل على تشويهها، وقلب صورها رأسا على عقب في قالب فني كاريكاتيري نقدي ساخر، ما من شأنه أن يعيق تطور الشخص المستهدف، والتأثير عليه نفسيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، تأثيرا قد يمس شخصيته سلبا، ويزعزعه من موقعه من ثمة، بشكل خطير مريب مخيف. أما فيما يخص الفنان، فعندما يمارس الكاريكاتيريّ المحترف مهنته، من خلال اقتحامه عالم هذا الفن، لاسيما حين يُربط بميدان الصحافة وبالتحولات الجارية في السياسة والمجتمع والواقع، وفي أحوال بعض الأشخاص الموكلين بتأدية مهام في مواقع المسؤولية الحساسة، وحين يتصل الفن ذاته أيضا، وبخاصة، ببعض الأنظمة والبلدان الديكتاتورية المستبدة، المصادرة لحرية الرأي والتعبير، وتظن نفسها جديّة حتى النخاع، ثم ترى الضحك عندها مفقدا إياها لقيمتها، فإن اللعب بالصورة، يصبح والحالة هذه، شيئا يستبطن مغامرة، قد تؤذي الفنان، وتحدث به الألم من حيث لا يدري أحيانا. إلى درجة قد تكلفه نكتته البصرية المرسومة حياته كاملة أحايين أخرى. وهكذا ينقلب الكاريكاتير ضد صاحبه، ويقف حاجزا أمام استمراريته وتقدمه هو الآخر، وهنا مكمن خطورته الثانية.

السخرية سلاح

انطلاقا من هذه التحديدات، يتبين لنا من وجهة أخرى، كيف أن الكاريكاتير، رغم كونه فنا ظهر في القرن السادس عشر، إلا أنه بات اليوم في واقعنا، يشق طريقه إلى التطور والظهور في أرقى صوره، لاسيما إذا وجهنا انتباهنا إلى حضوره الدائم واكتساحه القوي للمجلات الثقافية والأدبية، واقتحامه الواضح أيضا، للصحف السياسية وفن الشارع، وانسيابه الجارف، بالتالي، إلى مختلف فنون الصورة وتقنيات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام المرئية الحديثة والمعاصرة، بعدما كان مجرد وسيلة للتسلية والترفيه والمتعة والفكاهة البريئة.

الكاريكاتير وسيلة للتنفيس عن دوافع المكبوت داخل نفس الجسم الجماعي

ثم يمكننا تبين كيف انتقلت هذه الظاهرة في تشكلها من نكتة معقدة وغريبة، كان الفنان يلقيها لإمتاع أصدقائه ومعارفه، لتصبح سلاحا فتاكا من الناحية الاجتماعية، لكشف القناع عمّن يتغنى بالكمال، ويزعم امتلاك القوة والهيمنة، وتأبيده من ثمة بالسخرية وقتله بها، في الأثناء التي تعود فيها السخرية فنا ينبعث من جديد عن طريق الكاريكاتير، وعبر ممارسة هذا الأخير، لوظيفته الاجتماعية، التي تتحقق بها غايات تقويم بعض العيوب وتعديل سلوكات، تعديلا يمس إيجابا بشكل أو بآخر راحة الإنسان واستقراره في مجتمعه.

بل إن السخرية تستعمل أحيانا في إبداعات الفنانين للتعبير عن صورة مشتركة للتمثلات الجمعية، التي تعكس في صلبها موقفها السلبي من واقع بعض الأشخاص أو المؤسسات الرسمية، التي لا تسايرها بسبب نزوعاتها الوهمية، المصطنعة والشاذة عما هو طبيعي في الفطرة الإنسانية، وعدم مواكبتها لما تتطلع إليه الجماهير من طموحات وأهداف وغايات مجتمعية.

من هنا إذن، يأتي دور الفنان في الفضح والتشهير بتلك الممارسات من خلال وصفها كما تتراءى له، وهو يوظفها بحذق ومهارة في قالب إبداعي كاريكاتيري، يتعدى في قصديته الفكاهة الظاهرة المنبعثة، إلى ممارسة سخرية لاذعة، ومريرة مؤلمة، واتخاذها جسرا للعبور، لتمرير خطابه النقدي، كوسيلة للتنفيس عن دوافع الغضب والعدوان والمكبوت داخل نفس الجسم الجماعي. بل وداخل نفس المبدع ومشاعره الذاتية المُشبعة كذلك، وهكذا يوصل بإبداعه حد العقاب والانتقام الاجتماعيين. عند ذلك الحد، تأخذ الفكرة من هذه الزاوية، معنى أن ما يستبطنه الكاريكاتير من ميولات نفسية، يتجاور مع ما له من وظيفة اجتماعية، عادت إلى الظهور من جديد لممارسة دورها في السخرية والنقد الاجتماعيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً